لقد
رسخ بأذهاننا منذ الطفولة أن الزمان والمكان أمران مطلقان متروكان للفلاسفة
والشعراء، فكوّن الزمان والمكان أمران منفصلان يتفق عليهما الجميع. ولكن هذا تغير
تماماً منذ 100 سنةٍ فقط
قام
ألبرت أينشتاين وديفيد هيلبرت وغيرهما من ألمع العقول قبل 100 سنةٍ بكشف الستار عن
حقيقة الزمكان بكونه قابلاً للانحناء والالتفاف متأثراً بالكتلة/الطاقة. حيث تخبر
المادة الزمكان كيف ينحني، ويخبر الزمكان بدورة المادة كيف تتحرك! هذه هي النسبية
العامة باختصار. الزمان لم يعد مستقلاً عن الراصد، ولا المكان أيضاً. وبهذا يمثل
الزمكان “الحقل” الذي تتفاعل به المادة أو الطاقة تجاذبيا
أحرزت
النسبية العامة الكثير من النجاحات ومرت بالكثير من الاختبارات التي اجتازتها
بجدارة! ولكن الإختبار الأخير والذي يعد الأكثر أهميةً بقي قرناً كاملاً لكي يتم
التأكد منه، ألا وهو الكشف عن “موجات الجاذبية”، ولكن ماهي هذه الموجات؟ ولماذا
يُعد إكتشافها أمراً بالغاً الأهمية، حتى يمكننا القول وبكل جرأةٍ أن هذا هو
الاكتشاف الأهم لهذا القرن
يكون
الزمكان مسطحاً عند غياب أي كتلةٍ/طاقةٍ، أو يتبع الهندسة المستوية بدقةٍ أكبر
(تلك التي تُدرس في الثانوية). ولكننا نتوقع ردة فعلٍ من خلفية الزمكان عندما يحدث
اضطرابٌ بسيطٌ لهذه الهندسة المستوية لأيّ سببٍ كان، وردة الفعل تلك هي موجاتٌ
تنتقل في الزمكان بحسب ما تتوقع النسبية العامة ومعادلات حقل أينشتاين. هذه
الموجات إذاً عبارةٌ عن اضطراباتٍ في هندسة الزمكان فوق الهندسة المستوية، أو
موجاتٍ من إنحناء الزمكان. وكأن الزمكان وسطٌ مرنٌ والذي أدى الاضطراب به لتكوّن
موجةٍ تنتقل بهذا الوسط. تعرف هذه الاضطرابات بـموجات الجاذبية
يمكن
تصور “وسط الزمكان” كوسطٍ قاسٍ جداً لأن الجاذبية تفاعل ضعيفٌ للغاية، وبالتالي
فإن من الصعب إحداث اضطرابٍ ملحوظٍ به. ولهذا نحتاج لمصادر ذات طاقةٍ عاليةٍ جداً
تستطيع إحداث موجات جاذبية ذات ترددٍ وسعةٍ قابلين للقياس. وقد كان من الصعب جداً
اكتشاف تلك الموجات لهذا السبب، واستغرقت كل هذه المدة كي يتم اكتشافها
المصادر
التي تعطي موجات جاذبيةٍ قويةٍ كفايةً للرصد هي: 1) الانفجار العظيم 2) النجوم
النيوترونية الثنائية التي تدور حول بعضها بسرعاتٍ عاليةٍ جداً 3) إنفجارات
السوبرنوفا والهايبرنوفا 4) أنظمة الثقوب السوداء الثنائية (والتي على وشك
الاندماج). وتلك الأخيرة كانت مصدر الموجات التي تم رصدها والإعلان عنها
بتاريخ الخميس 11 فبراير/شباط 2016 ويوجد بالطبع مصادر أخرى، فأيّ جسمين
يتفاعلان جاذبياً يصدران موجات جاذبية، وحتى ردة فعل الزمكان للتموجات الكمية تؤدي
لموجات الجاذبية. إلا أن هذه الموجات بالغة الضعف مما
يستحيل علينا رصدها كما
ذكرنا سابقا
تكمن
أهمية موجات الجاذبية بأنها في البداية تؤكد صحة النموذج الهندسي للجاذبية، أي وصف
التفاعل الجاذبي بين الأجسام كانحناءٍ بالزمكان، وتبين أن تناظر لورتنز ينطبق على
الزمكان والجاذبية (حيث موجات الجاذبية تسير بسرعة الضوء)، وتعد أيضاً الخطوة
الأولى على الصعيد التجريبي بالكشف عن نظرية الجاذبية الكمومية، حيث يمكننا
المحاولة بتكميم تلك موجات الجاذبية لنحصل على جسيم الجرافيتون، كما قد قمنا بتكميم
الحقل الكهرومغناطيسي والضوء كموجة، والتي حصلنا منه وحصلنا على الفوتون. إلا أن
القول أسهل كثيراً من الفعل على هذا الصعيد
لا تقف أهمية تلك الموجات عند الناحية الأساسية
في الفيزياء وحسب، بل يفتح الكشف عنها باباً واسعاً لنوعٍ جديدٍ من الفيزياء
الفلكية، وهو الفيزياء الفلكية باستخدام موجات الجاذبية. حيث ستمكننا من دراسة
العديد من الظواهر الفلكية بشكلٍ لم يسبق له مثيلٌ مثل السوبرنوفا، النجوم
النيوترونية والبلسارات، وحتى بدراسة الانفجار العظيم على الصعيد الكوني كما لم
يسبق لنا فعل ذلك من قبل. حيث أن دراستنا الفوتونية للانفجار العظيم لن تأخذنا إلى
إلا عند 100 ألف سنة بعد الإنفجار العظيم، وذلك لكون الكون حاراً جداً قبلها مما
أدى لتكون حاجز آسر للكون، وتكون خلفية المايكرويف الكونية. أما موجات الجاذبية
فقد تأتي من الانفجار العظيم نفسه، أو على الأقل أقرب بكثير من تلك الموجات
الكهرومغناطيسية للإنفجار العظيم
يطول
الحديث عن أهمية هذا الاكتشاف وتبعاته المستقبلية، ولكن إكتفيت هنا بأهم النقاط
على الصعيدين النظري والتطبيقي. وذلك لأن موجات الجاذبية هي اضطرابات بالزمكان،
فإن الكشف عنها يتطلب دقةً بالغةً في قياس التغير بالمسافات على مستوي فائق الصغر،
ولذلك استخدم الفريق تداخل الليزر للكشف عن أيّ تغيرٍ بسيطٍ بالمسافات أحدثته تلك
الموجات المارة بالأرض
هذه هي البداية فقط لعصرٍ جديدٍ من فيزياء
الجاذبية، والذي سيأخذنا لفهمٍ أعمق وأكبر لطبيعة تكميم التفاعل الجاذبي ونشأة
كوننا
Enregistrer un commentaire